فصل: القصص الحق المصور في أهل الكهف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.القصص الحق المصور في أهل الكهف:

91 - ومن أروع القصص القرآني المصوّر في صدقه، وسرد حقائقه قصة أهل الكهف التي هي آية وحدها في التصوير البياني القصصي الصادق، وهي في كل جزئية تصور الأمر كأنَّه مرئي بالحس، لا مذكور بالخبر وحده، واقرأ قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا، إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا، فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا، ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا، هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا، وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا، وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا، إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا، وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا، سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا، وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا، قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 9 - 26].
هذه قصة أهل الكهف والرقيم، وهو الحجر الذي رقم عليه أنه رمز لمأواهم ليكونوا عبرة، وليكونوا دليلًا ناطقًا على الإيمان بالبعث والنشور، وإن الذين يجحدون بهما يرونهما عيانًا فيهم؛ إذ بعثهم الله سبحانه وتعالى، وقد حسبوا أنهم مضى عليهم يوم أو بعض يوم.
والقصة الكريمة كما ذكرها القرآن الكريم في قصصه الحق لها مشاهد تذكر كأنها ترى، وكأن الإنسان يعاين وقائعها، وفي أسلوب قرآني قصصي يؤخذ منه مغزى القصة في غير التباس، ولا ارتياب.
المشهد الأول: إبواء فتية آمنوا بربهم، وزادهم الله تعالى هدًى، وقد فرّوا من الوثنية إلى الوحدانية، ومن الوثنيين إلى جوار ربهم، وقد ربط الله على قلوبهم، فاستمسكوا بإيمانهم، واعتصموا بربهم، وكان الإيمان قد سَكن وعاء القلب، فربط الله تعالى بالصبر حتى لا يخرج من وعائه الذي استقرَّ فيه واطمأنَّ، فلا يتشعع أمام أي حادث، وإنَّ الإيمان إذ سكن واطمأنوا كانت رحمة الله تعالى أن ضرب على آذانهم، بمعنى: إنَّه خيَّم عليها فأصبحت لا تسمع لغو الحديث، وأنهم إذا آووا إلى الكهف قطعهم الله تعالى عن لغو الوثنية وظلم أهلها، فاجتمع لهم الإنزواء عن الناس والبعد عنهم بالحس، فلا يرون الناس ولا يسمعون عنهم، وساروا في غيبوبة كأنهم الموتى، وليسوا أمواتًا، وتحسبهم أيقاظًا وهم رقود، وكل ذلك في تصوير قصصي كأنَّ التالي للقرآن يراهم، وهم يهرعون إلى الكهب يأوون راجين الرحمة والرشاد، مبتعدين عن الآثام وما في الدنيا، وقد زادهم الله تعالى فجعلهم رقودًا، وهنا نجد الصورة واضحة أن ناسًا يظن أنهم أيقاظ وهم رقود، وقد بقوا على ذلك سنين عددًا تجاوزت ثلاثمائة.
والمشهد الثاني: بعثهم، وقد اختلف الناس في أمر المدة التي استمرّوها في الكهف، وقد مرَّت الأجيال، وهم يحسبون أنهم أيقاظ، فقد استمرّوا كما ذكر في القرآن الكريم ثلاثمائة سنة وزادوا تسعًا.
ويجيء بعد البعث الكلام في المدة التي مكثوها، والسبب في اختيار مأواهم، فقص الله خبرهم بالحق تفصيلًا بعد أن ذكره إجمالًا، لقد قاموا من سباتهم، وهم يرددون إيمانهم بالله تعالى، واعتراضهم على أقوامهم، ويحكون ما كان منهم مع أقوامهم {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} وأنَّ قومهم اعتزلوهم وهم لا يعبدون إلّا الله تعالى، ونرى الصورة القصصية واضحة بينة، هادية مرشدة تصور الملاحاة بينهم وبين أقوامهم، حتى اعتزلوهم معتصمين بربهم، مؤمنين به، وهذا المشهد كل أجزائه واضحة، حتى إنه يصور الكهف ومن فيه، وخرجوا منه في مشهد واضح بيِّن، هو كالعيان بتصوير القرآن الكريم.
والمشهد الثالث: منظرهم وهم رقود، وحال الكهف وصورته، فهم في فجوة منه يتَّجِهون فيه إلى الشمال، والشمس تخرج لهم من المشرق يمينًا، وتودِّع الكون في غربهم، فالشمس والهواء، يحيطان بهم، وذلك أصلح مكان؛ إذ يستقبل الشمس في غدوها طالعة، وفي غروبها رائحة والهواء من البحر يجيء إليهم، فينعشهم نسيمه العليل، فأسباب الحياة الطيبة قائمة ومهيأة لهم وهم رقود، وإن كان الرائي يحسبهم أيقاظًا، والوصف القصصي يصور المكان كأنَّ القارئ للقرآن يراه، وهو يتلو كتاب الله تعالى.
وإنهم في هذه المنامة يتقلبون كالأيقاظ الأحياء بإرادة الله تعالى وأمره الكوني {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ}، ولا يترك القرآن الكريم من الصورة المكانية شيئًا إلا بيَّنَه وصوره، فيذكرهم وكلبهم يحرسهم وهو بالوصيد، وهو فجوة بالجبل الذي فيه الكهف، فالتصوير القصصي كامل يرى فيه القارئ صورة للمكان، وكأنها مصورة بصورة باهرة، وليست كلامًا متلوًّا، ولكنه كلام الله تعالى العزيز الحكيم.
وإنَّ المكان فيه رهبة وحالهم فيه هيبة {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}.
المشهد الرابع الذي تصوره القصة، وقصص القرآن كله حق لا ريب فيه، وهو تيقظهم بعد الرقدة، وحالهم وقد رأوا الحياة اللاغبة التي كانوا عنها غافلين، وكانوا فيها راقدين، وأوّل سؤال توجّهوا به، سألوا به أنفسهم، كم لبثوا في منامهم، وقد سالهم هذا السؤال واحد منهم، فقالوا كأنهم مجمعون أنهم لبثوا يومًا أو بعض يوم، ولكنهم كشأنهم لم يتخبَّطوا، ولعلهم ظنّوا أن المدة أطول من ذلك، ولذلك قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم، وهنا نجدهم اتجهوا إلى الحياة يطلبون رزقهم، ومعهم نقود فضية قد ضربت منذ تسع وثلاثمائة سنة تكشِف للناس عن أمرهم، وكانوا ككل أهل الإيمان أهل تسامح، فقد طلبوا من مبعوثهم أن يتلطّف، وألَّا يشعر بهم أحدًا، حتى لا يكون منهم أذى، ويظهر أنهم بهذه النقود عثر الناس على أمرهم، وعرفوا حقيقتهم، وكان إلهام الله بذلك ليعرف الناس حقيقتهم، وتكون حياتهم في الكهف ورقدتهم فيه دليلًا محسوسًا على أنَّ وعد الله تعالى بالقيامة حق، ولذا قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} وهذه كلها مشاهد في القصة تعاين فيها أحداثها في قصص محكم.

.التصريف في صور العبارات القرآنية:

92 - من أدل شيء على بلوغ القرآن أعلى درجات البلاغة تصريف المعاني والألفاظ في كل باب من أبواب القول، وقد أشرنا إلى ذلك في أول كلامنا في بيان تصريف الكلام القرآني، وتصريف القول يتناول الألفاظ، وتصريف الألفاظ يتضمن لا محالة تصريف المعاني؛ لأنه لا مرادف في القرآن، ولا يوجد أسلوب يؤدي معنًى يؤديه الأسلوب الآخر، وإن كان يبدو بادي الرأي أن المعنيين يتحدان في جوهر المعنى، ولكن عند التامل في الإشارات البيانية التي تشير إليها الألفاظ، والتي تطيف حولها وتشع منها، تجدها مختلفة، وإن كل تغيير في العبارات القرآنية عن أخواتها في مثل موضعها يحدث تغييرًا في المرامي، ولمح القول، حتى الوقوف والفواصل تؤدي باختلاف نغمها ما لا تؤديه مثيلاتها ممَّا هو في موضوعها، وإن النغمات القرآنية التي تتخالف أحيانًا تكون كل نغمة في مقامها تومئ بموسيقاها إلى إشارة لا تومئ إليها نغمة أخرى لآية في هذا الموضع نفسه.
ولنضرب في ذلك بعض الأمثال في الاختلاف في الأسلوب، والموضوع واحد، وتغيّر المعاني ورفقها، وكل فيما يناسبه.

.الاستفهام والنفي:

93 - لا شكَّ أن النفي المجرَّد والنفي بطريق الاستفهام، كلاهما يدل على أصل النفي، ولكن النفي بطريق الاستفهام أقوى دلالة في معنى النفي؛ لأنَّ النفي بالاستفهام فيه معنى أنَّ المخاطب سبق إلى النفي، فكان النفي من القائل، والإقرار به من المخاطب، اقرأ قوله تعالى في ادّعاء المشركين أن الله تعالى حرَّم بعض الأطعمة، فنفى الله سبحانه وتعالى - ذلك بقوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ، قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 148 - 150].
ألا ترى أن هذا الاستفهام للنفي؛ إذ المعنى الجملي: ما عندكم من علم بأن الله تعالى حرَّم عليكم، إن أنتم إلّا تخرصون، تتوهمون ما ليس له حقيقة واقعة.
ولا شك أن المجيء بصورة استفهام فيه مزيتان؛ إحداهما: تنبيه إلى أنه كان يجب عليهم قبل أن يعتقدوا أن يتعرَّفوا الدليل الذي يسوغ لهم العلم حتى لا يقولوا على الله ما لا يعلمون. والثانية: إنَّ في الاستفهام حملًا لهم على أن يقروا بالنفي، وفوق ذلك كله فإنَّ سياق الكلام فيه توبيخ لهم؛ لأنهم بنوا عقائدهم على أمور باطلة لا أساس لها من حق ولا علم، وأنَّ هذا نوع من الاستفهام الذي يراد به النفي يعبر عنه علماء البلاغة بأنه استفهام إنكاري؛ لإنكار وقوع موضع الإنكار، وهناك إنكار يقال له: إنكار الواقع، وهو يكون في معنى التوبيح على ما وقع على أنَّه لا أصل له.
اقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وهذا إنكار لما وقع منهم، وإنكار الواقع توبيخ؛ ذلك لأن المشركين كانوا يوجبون الطواف عراة، وكانوا يحرمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، والله سبحانه وتعالى - نفى ذلك التحريم بهذه الصيغة {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} والنفي بصيغة هذا الاستفهام فيه مبالغة؛ لأنَّ فيه إشارة إلى أنَّه لا يسوغ لعاقل أن يكون منه ذلك التحريم؛ لأنه عمل غير معقول في ذاته؛ إذ المؤدَّى: لا أحد حرم زينة الله من لباس ساتر، ولا أحد يحرم طيبات الرزق التي لا خبث فيها من حيث الحقيقة، ولا من حيث المعنى، ما دام طريق الكسب طيبًا، وأنَّ الله لا يأمر إلّا بالقسط الذي يتفق مع الفطرة، ولذا قال تعالى من بعد ذلك: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
وقال سبحانه من قبل هذه الآيات: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ، فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 29 - 31].
94 - وقد ذكر عبد القاهر في كتابه (دلائل الإعجاز) الحكمة في سبب تسمية الاستفهام بالإنكاري، سواء أكان لإنكار الوقوع بمعنى النفي، أم لإنكار الواقع بمعنى التوبيخ، فقال رضي الله تعالى عنه:
وأعلم أننا وإن كنا نفسِّر الاستفهام في مثل هذا الإنكار بالنفي، فإن الذي هو محض المعنى أنَّه ليتبين السامع حتى يرجع إلى نفسه، فيخجل ويرتدع، ويبين الجواب إما لأنه قد ادَّعى القدرة على ما فعل ما لا يقدر عليه، فإذا ثبت على دعواه قيل له: فافعل، فيفضحه ذلك، وإمَّا لأنه همَّ بأن يفعل ما لا يستصوب فعله، فإذا روجع فيه تنبه، وعرف الخطأ، وإما لأنه جوَّز وجود أمر لا يجوز مثله، فإذا ثبت على تجويزه وبّخ على تعنته، وقيل له: فأرناه في موضع وفي حال، وأقم شاهدًا على أنه كان في وقت. ولو كان يكون للإنكار، وكان المعنى فيه من بدء الأمر، لكان ينبغي ألا يجيء فيما يقوله عاقل: إنه يكون حتى ينكر عليه، كقولهم: أتصعد بي إلى السماء، أتستطيع أن تنقل الجبال، أإليّ رد ما قضي من سبيل.
ومؤدَّى هذا الكلام أنَّ الإنكار إذا كان نفيًا لوقوع أمر فمؤدَّاه أن الأمر لا يقع، ولا يعقل أن يقع، فهو نفي مؤكد؛ إذ هو ليس نفيًا للفعل فقط، بل هو نفي له مع بيان أنه لا ينبغي ولا يجوز أن يقع، وإذا كان الفعل قد وقع فهو توبيخ على الوقوع، واستنكار له، كما رأيت في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، ويلاحظ أنَّ الإنكار سواء أكان إنكارًا للوقوع بمعنى النفي أم إنكارًا للواقع بمعنى التوبيخ، فإنَّ فيه حمل الفاعل على الإقرار بالنفي أو إثبات ما أوجب التوبيخ.
95 - ومن الاستفهام في القرآن ما يكون لبيان الاستحالة، وهو يقارب في معناه نفي وإنكار الوقوع إلى حدِّ أنه يكون احتمالًا غير معقول، ومن ذلك قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} بمعنى: إنَّك تخلق فيهم بصرًا يبصرون به، وأن هذا فيه استفهام إنكاري، ويه استعارة تمثيلية، فقد مثّلت حالهم بحال الأصمِّ الذي لا يسمع، أو في آذانه وقر، وبحال من فقد البصر، وأن يطلب هدايتهم كمن يطلب السمع من الأصم، أو يطلب الإبصار ممن فقد البصر، فالاستفهام لاستحالة موضوع السؤال وأنه لا يقع.
ومن ذلك أيضًا الاستفهام الذي عبَّر به القرآن عن حال الجاحدين الذين يتوهمون أن الفقراء في الدنيا لا يمكن أن يكونوا هم أول المهتدين، متوهمين أنَّ الفضل بسعة الرزق وكثرة المال لا بالتقوى والمسارعة إلى الخير، فالله تعالى يصوّر حالهم بهذا الاستفهام، فيقول - تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الأنعام: 53]، فالاستفهام على مقتضى نظرهم يوجب ألَّا يكون الله تعالى منَّ عليهم قبلهم، وذلك من فساد القياس؛ إذ قاسوا الفضل بمقياس المادة، ولم يقيسوه بمقياس الفضيلة والتقوى والمسارعة إلى الخير.
ومن الاستفهام الذي ينبئ عن استحالة الجواب قوله تعالى آمرًا نبيه:
{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71] فالاستفهام هنا واضح أنه لبيان استحالة أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ما يدعون من دون الله تعالى، وأنَّ حالهم في عقيدتهم الباطلة، كحال من يسير في بيداء، وقد استهوته الشياطين الصارخة فاندفع إلى غير هدى حتى تاه في المهمه القفر، وله أصحاب ينادونه فلا يستجيب لهم؛ لأن الباطل قد ضرب على قلبه؛ ولأن استهواء الشياطين قد غلب عليه.
ومن قبيل الاستفهام الداخل على ما لا يجوز التغيير فيه ما جاء على لسان إبراهيم عليه السلام، وقومه يحاجُّونه يريدون أن يردّوه، فقد قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي} [الأنعام: 80].
ومن الاستفهام الذي يدل على استحالة موضوعه ما ذكره سبحانه وتعالى - من أنه يوجِّه إلى السيد المسيح عيسى عليه السلام يوم القيامة؛ إذ يقول سبحانه: {وَإِذْ قَالَ اللَّه يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 116 - 118].
وهنا نجد تلك المجاوبة التي أعلمنا سبحانه وتعالى - أنَّها ستكون بينه وبين المسيح عيسى ابن مريم - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، كان الاستفهام فيها لبيان استحالة أنَّ ابن مريم قال لهم: اعبدوني وأمي واتخذونا إلهين من دون الله، ولذلك جاءت الإجابة على السؤال باستحالة موضوعه، وأنَّه ما كان ولا يمكن أن يكون من عبد الله ورسوله عيسى عليه السلام.
96 - ومن الصيغ الاستفهامية تلك التي تجيء في القرآن الكريم ما يكون للإفحام والرد؛ كالرد بالصيغة الاستفهامية؛ إذ يقول سبحانه وتعالى - عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18].
وإن ذلك الاستفهام مع دلالته على استنكار قولهم فيه دلالتان أخريان:
إحداهما: إعلامهم بأنَّه سيعذبهم بذنوبهم، وأنهم مأخوذون بما يقترفون من سيئات، وما يجترحون من مآثم ومظالم.
الثانية: الدلالة على أنَّ عمل الخير له ثوابه، وعمل السوء له عقابه، وأنَّ من يقول غير ذلك فهو مبطل، وما كان لهم أن يدعوا محبَّة الله، وأنَّهم منه بمنزلة الأبناء من الآباء، ومع ذلك يعصونه، وينشرون في الأرض الفساد.
فهذا استفهام مع ما فيه من إحكام واستنكار يتضمَّن معاني سامية، فيها التهديد لمن عصى، والتبشير لمن أطاع.
وهنا لون من ألوان الاستنكار تراه منصَّبًا على المساواة الظالمة بين الخير الأدنى، وما هو أعلى منه، كما في قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19].
لقد كانت قريش تتنافس على السقاية وسدانة البيت الحرام، وتتسابق إلى عمراته إن احتاج إلى عمارة، ويحسبون أنَّ ذلك يجعل لهم فضلًا على الناس ولو كانوا مشركين، وقد قرَّر سبحانه أنَّ الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والتقدم لفداء الحق ونصرته لا يساويه مجرَّد السقاية والسدانة والعمارة، ولو كان لبيت الله الحرام الذي هو مثابة للناس وأمن، فالإيمان والعمل الإيجابي لنفع الناس وحماية الحق والذود عنه هو في المكانة السامية، وقد أتى سبحانه بذلك في صيغة استفهام إنكاري، وهو منصَبٌّ على التسوية بين الأمرين، وهو استنكار فيه توبيخ، وفيه إبطال للباطل، وإحقاق للحق، وإعلاء لشأن الإيمان والجهاد، وأنَّه فوق كل شأن.
ومن الاستفهام الذي يحكي عن المشركين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ما يذكر على سبيل الاستغراب، وظنّ الاستحالة، ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا، قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 49 - 51].
ومثل ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد: 5].
وإنَّ هذه الاستفهامات هي من قبيل الإنكار والاستغراب، فترى المشركين يعلنون إنكارهم للبعث، ويستغربون أن يكون، يسغربون البعث في ذاته، ويقرنون ذلك بحال الذين يموتون من بعشرة أجسامهم بعد أن يصيروا رفاتًا، ويضيفون إلى استغراب البعث في ذاته ما يقررونه في اعتقادهم من أحوالهم، يحسبون أنَّها تبرر الإنكار، أو تزيد الاستغراب، فيسألون من الذي يبعثهم من مراقدهم، ويوهم قولهم أن ذلك غريب.
وفي سورة الرعد في النص لاذي نقلناه يستغربون ويتعجبون، بين الله تعالى أن موضوع العجب هو عجبهم؛ لأن البعث فيه سر الوجود، إذ إنهم لم يخلقوا عبثًا، وإذا كان الابتداء ليس فيه عجب، فالإعادة ليست فيها عجب أيضًا، فالاستغراب موضوع استغرابهم هم.
وإنا نجد في كل الأمثلة التي ذكرناها في الاستفهام تصريفًا في القول يوجد جدة في كل جملة عن سابقتها، وإنَّه لو كان النفي أو الاستغراب والتعجب أو الاستنكار والتوبيخ بلغة واحدة ما كان التنويع في التعبير، الذي هو ميزة لكل كلام، فضلًا عن أبلغ كلام رأته الإنسانية؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإنَّه بديع في نسقه، في أعلى درجات الإبداع، وإنه كما قال الكافر الذي سمعه يعلو، ولا يعلى عليه، وأنه ذو القطوف الدانية، والجمال دائمًا.
97 - ومن الاستفهام ما يكون تقريرًا للواقع، وذلك يكون في الحال التي تستوجب العجب، أو توجب الاستنكار؛ إذ يكون الواقع المقرر مستنكرًا؛ لأنه ليس من صنيع أهل الإيمان، ولا مما تستسيغه الفطرة السليمة، أو تستحسنه الأخلاق الحكيمة، اقرأ قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 1 - 7].
وإنَّ هذا الاستفهام التقريري الذي يؤكد الرؤية العالمة من النبي صلى الله عليه وسلم، فإن معنى: أرأيت، لقد رأيت الذين يكذبون بالدين، وأن مجيء العبارة بطريق الاستفهام فيه تأكيد لمعنى الرؤية لأولئك الذين اتَّصفوا بهذه الصفات الغريبة التي تتماسلك فيها كل صفة مع أختها، كأنها ملازمة لها لا تفترق عنها، وكأنها منها، فالتكذيب بالدين هو صفة الجاحدين، لا يؤمنون بالحق ولا يهتدون بهديه، وأولئك دأبهم النفرة من الناس، وألَّا تكون فيهم رحمة بالضعيف، فهم يقهرون اليتيم ويذلونه ويرهقون، ويمنعون كل عون؛ إذ يمنعون الزكوات التي هي عون الأقوياء للضعفاء، وهم لا يتذكرون ربهم، ولا يدنون منه، حتى في الصلاة، وصلاتهم ويل عليهم، وليست قرية لهم، وهي محسوبة عليهم على أنَّها من السيئات، ولا تحسب لهم على أنها من القربات، وهم في أعمالهم يراءون، والرباء شرك خفي، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك.
وإن موضع الاستفهام هنا لا يغني عنه التقرير المجرد؛ لأن مؤدّى الاستفهام أنَّ المخاطب قد سُئلَ عن الرؤية مثلًا، فأجاب عنها بالإيجاب، فكان تقرير الواقعة بإقرار من المسئول، فهو تقرير معه التصديق، وهو مع ذلك تنبيه إلى الصفات المرذولة التي اتصف بها أولئك الجاحدون بأصل الدين، من قهر اليتيم ومنع المسكين، والصلاة الساهية عن معنى القرب إلى الله تعالى، وهم يراءون الناس ويمنعون كل عون حقيقي.
ومن الاستفهام التقريري الذي يثير الانتباه إلى الحقائق التي يتضمَّنها قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ، قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 46، 47].
إن هذه الآيات الكريمات فيها عدة استفهامات أولها تقريري، وهو تقرير الرؤية كأنهم سئلوا عنها، فأجابوا بالإيجاب، فكان التقرير مؤيدًا بالإقرار، وكان حكمًا مؤيدًا بالدليل، وهو الإقرار سلطان الأدلة، والاستفهام كان موضع الاستفهام الأول، وهو قوله تعالى: {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} وهو استفهام في معنى النفي، فهو إنكاري، أي: إنَّه لا إله غير الله يأتيكم، فهو يتضمَّن مع النفي إقرارًا من السامعين بأنه لا إله غيره، وإثارة العجب ممن لا يقرون بهذه الحقيقة، فهي موضع البرهان، وقد تضمَّن النص الكريم استفهامًا ثالثًا لتوجيه النظر إلى ما يصرفه القرآن من أدلة مختلفة، وذلك الاستفهام توجيهي تنبيهي تقريري، وهو قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} فقوله: {كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} فيه توجيه النظر إلى تصريفه للآيات، وجاء بصيغة الاستفهام لتصوير التصريف في الآيات التي أنزلها الله تعالى، أو كانت في الكون، وما كان ذلك التصور لها ليتحقق إذا لم تكن الدعوة إلى النظر، ثم الاستفهام الذي يأخذ النظر ليضعه على ذلك التصريف، ثم كان الاستفهام متضمنًا معنى الاستنكار لحالهم؛ إذ إنهم مع تصريف الآيات وجعلها في صورها جديدة تسترعي الالتفات والاتجاه إلى إدراكها والتنبه لها، ومع ذلك - لكثرة جحدوهم ولجاجة الباطل في نفوسهم - يعرضون، ولا تستولي على نفوسهم، كشأن الفكرة المجددة، فإنها تسترعي الأفهام وتأخذ بالألباب، ولكنهم عموا، فلا يجديهم تصريف، ولا يأخذ بألبابهم تجديد الأسلوب؛ لأنهم معرضون، إنك لا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين.
وفي النص استفهام تقريري على منهاج لا يعرف إلّا في القرآن، فإني لم أقرأ كثيرًا في غير القرآن ذلك المنهاج الاستفهامي؛ إذ يقول سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 47] فالتعبير في الاستفهام - أرأيتكم - ليس مشهورًا في الأساليب العربية، ونجد هنا الخطاب تكرر فيه، فالتاء المفتوحة خطاب، والكاف خطاب، والتاء خطاب للمفرد، والكاف خطاب للجمع، والتاء متجهة إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم، والكاف متجهة إلى خطاب الجمع، فاجتمع خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وخطاب الجماعة، وذلك لأنَّ في الاستفهام تقريرًا لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم، وتقريرًا لرؤية كل المخاطبين بالقرآن الكريم، وكان لا بُدَّ لاجتماع الخطابين، خطاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليقرِّر الواقع وهو علمه عليه السلام، وتقرير الحقيقة الثابتة للناس أجمعين، وهي أنَّ عذاب الله الذي يجيء بغتة في خفاء أو جهرة في وضح النهار لا يهلك إلّا القوم الظالمون؛ فهو جاء لأجلهم منصبًّا عليهم، وهنا أمران يجب التنبيه إليهما.
أولهما: إنَّ الزمخشري ومن حاكاه كالبيضاوي وغيره قالوا: إنَّ الكاف حرف لتأكيد الخطاب لا موضع لها من الإعراب، فهي ليست ضميرًا، ولكنَّها من الحروف التي تبنى على غير محل من الإعراب، وحجتهم أنَّ رأى استوفت المفعولين من غير تقدير الكاف في موضع الضمير، ونحن نميل إلى أنَّها ليست زائدة لتأكيد الكلام، وليست حرفًا، ولكنَّها اسم بمعنى أنفسكم، ويكون تأويل القول على هذا: أرأيت أنفسكم، وجمع ليشمل كل الناس وكل المخاطبين، وعلى هذا التأويل يكون المعنى: أرأيت أيها النبي الناس وقد صاروا عرضة لعذاب يعمّ الجميع أم يخص الظالمين الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الناس وظلموا العقل فضلّوا وأضلوا كثيرًا، وأفسدوا في الأرض والله لا يحب الفساد.
الأمر الثاني: إنَّ قوله تعالى: {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} فيه استفهام إنكاري بمعنى إنكار الوقوع، والمعنى: لا يهلك إلّا القوم الظالمون، واقتران الكلام بالوصف يدل على سبب استحقاق الهلاك وهو الظلم، فبظلم منهم هلكوا، وكان ذلك تأكيدًا للنفي بذكر السبب في أنهم اختصوا بالهلاك.
ومن هذا النوع في الاستفهام الذي اقترن بتاء الخطاب والكاف، وكان كلاهما بالمفرد، قوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا، قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} [الإسراء: 62، 63].
والله سبحانه وتعالى - يحكي عن إبليس اللعين وهو يخاطب رب العالمين، والاستفهام لتقرير الواقع لا لنفيه، والكاف على قول الزمخشري هي تأكيد لمعنى التأكيد، ونحن نرجِّح ذلك؛ لأن التاء مفرد والكاف مفرد، وهو تأكيد لفظي يتوافق فيه المؤكِّد مع المؤكَّد في الإفراد والجمع، أمَّا الاستفهام السابق فمعنى التأكيد فيه بعيد، للتخالف في الإفراد والجمع، وهذا النوع من البيان لتصريف القول، وقد ذكر طبيعة إبليس الفاسدة بأنه سيجعل ذلك الذي كرَّمه تعالى عليه الهلاك لذريته إلا قليلًا، وهذا من غرور إبليس، ومن يسكن الشيطان قلوبهم، وهذا كقوله: {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39، 40].
ونلاحظ أنَّ دخول الاستفهام على رأي، مع وجود ضميري خطاب في جملة واحدة أو على قول الزمخشري: ضمير خطاب وحرف خطاب، هو استعمال قرآني، لا أعرف أنَّ العرب قد استعملوه كثيرًا قبل القرآن، وفيه من معاني الاستنكار أو التنبيه أو التعجب في أبلغ صور، وأنَّ هذا من سرِّ الإعجاز، ودليل على أن القرآن لم يكن علمه البياني عند العرب من قبله.
98 - والاستفهام أحيانًا يكون للتسوية بين أمرين، ويكون هذا لبيان وحدة النتيجة والغاية مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]، وإن أداة الاستفهام في هذا ليست للاستفهام الحقيقي، ولا للإنكار ولا للتعجب، ولا لغير ذلك مما ذكرناه من مقاصد للاستفهام، وفي النص القرآني تأكيد لجحود الذين كفروا، والإشارة إلى أنهم سبقوا إلى الجحود، فالأدلة مهما تكن قوية لا تجد مكانًا فارغًا لتملأه، ولكنها تجد قلبًا مملوءًا جحودًا، فلا سبيل لأن يدخل الحق، ومن ذلك قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21].
فهنا كانت التسوية بين أمرين من حيث الانتهاء إلى نتيجة واحدة، فإن الأمر الذي لا يكون ثمَّة مفر منه، يستوي فيه الصبر والجزع من حيث إن كليهما لا يدفع المحظور، وإن كان الصبر أجدى؛ لأنه يوجد في الجملة قرارًا ورضا وتقديرًا للأمر، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن صبرتم أجرتم، وإن جزعتم وزرتم».
وقد تكون ألف الاستفهام للترديد بين أمرين في ظاهر القول، وليست الغاية متحدة، والعقل يقرر صدق أحدهما في قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات: 27 - 29] فإن هذا الاستفهام ليس فيه تسوية بين أمرين في الحكم أو النتيجة والغاية، بل المعقول يثبت أحدهما وينقض الآخر بدليل من العقل والحس، فإنه لا شك أن الأشد خلقًا هو الأكبر حسًّا، والأعظم تأثيرًا، والأدق إحكامًا، وهو السماء بما يتصف فيها، وإذا كان سبحانه مالك السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من دابَّة، فهو على ما يشاء قدير.
ومؤدَّى هذا الكلام نفي سلبي وحكم إيجابي، فأمَّا النفي السلبي فهو أنَّ الإنسان ليس أشد خلقًا، وأما الحكم الإيجابي فهو بيان سلطان الله سبحانه وتعالى - القاهر فوق كل شيء.
وهذا النوع من الترديد إنما يكون دائمًا لحمل المخاطب على الحكم الصحيح، فهو لا يدل على التسوية، بل يدل على التفرُّق في الحكم، ولينطقوا بالصواب أو ليلتزموا به إن لم ينطقوا، أو ليفحموا إن لم يسترشدوا وضلوا، وهو استدلال على الحكم، ومن ذلك النوع من الاستفهام قوله - تعالت كلماته:
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 85 - 73].
ونرى هذه الاستفهامات المتقابلة التي يجيء فيها بين الاستفهامين لفظ أم التي تدل على التعادل بالظاهر من اللفظ، ولكنَّها ليست متعادلة من درجة الحقيقة الثابتة، فهي مقابلة بين حق وباطل، للتنبيه على الحق بالدليل، والتنبيه بالاستفهام بطريق التقابل، فإذا الخالق هو الله سبحانه، فالفطرة والبداهة والحس تقرران الأول، فالحكم بلا ريب ينتهي بمقتضى التقابل هو أنَّ الخالق هو الله سبحانه، وكذلك الأمر في الزروع، وكذلك الأمر في الماء، وكذلك الأمر في النار.
فهو استفهام ليس على حقيقته، ولا للإنكار المجرد، ولكنه للتنبيه والاستدلال على الحق بالإشارة إلى البطلان الذي يكون في الجانب المقابل للحق، فإنه إذا بطل النقيض كان الحكم بصحة نفيضه، فإذا كان التردد بين كونهم الخالقين، والخالق هو الله، وتأكّد بالحسِّ بطلان وصفهم بالخلق، فقد ثبتت صفة الخلق لله تعالى، وبذلك يكون الاستفهام للتنبيه والاستدلال كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].
ومن ذلك النَّوع ما حكاه الله تعالى عن سيدنا يوسف، وهو يقول لصاحبي السجن: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]، فإنَّ هذا التقابل بين باطل تثبت البداهة بطلانه، وإذا بطل أحد المتقابلين صدق الآخر، فكان الاستفهام للتنبيه إلى الحق مؤيدًا بالدليل القاطع.
99 - والاستفهام للتنبيه كثير في القرآن، وكذلك لإثارة العجب حول ما يدَّعون من ترهات وأباطيل، وبيان وجه غرابتها، ولا يمكن إحصاء ذلك، واستقراؤه وتتبعه، ولكن يمكن ضرب الأمثال، وما يذكر يكون شاهدًا على ما لم نرطب ألسنتنا بتلاوته، ولا أسماعنا بالاستماع له والإنصات والتدبر فيه.
اقرأ قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ، فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات: 24 - 29] إلى آخر القصة، وترى القصة ابتدأت بالاستفهام للتشويق وللتنبيه إلى الاستماع، وقد ابتدأت بعبارة فيها إجمال لتكون تمهيدًا لما يجيء بعد ذلك من التفصيل، ومن الاستفهام الذي للتنبيه إلى قدرة الله تعالى، وهم لا ينكرون الجواب، فيكون الاستفهام للإقرار به وتقريره قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ، فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 31 - 36].
ففي الآية الأولى كانت أربعة استفهامات عن الرزق من يرزقه، وعمَّن يملك السمع والأبصار فيسلبهما إن شاء أو يبقيهما، ويردهما إن سلبهما، وسألهم عمَّن يخرج الحي من الميت ومن يدبّر الأمر، فسيقولون الله في إجابة هذه الأسئلة، فجاء الاستفهام الأخير في هذه محرّضًا على التقوى؛ إذ إنَّ التقوى كانت من نتائج إقراراهم بالإجابة الصادقة عن هذه الأسئلة التقريرة التنبيهية؛ إذ إنَّ العبادة لا تكون إلا الخالق وحده، فالمعبود الذي يستحق أن يكون إلهًا هو الخالق النافع الضار.
ونرى أنَّ الأسئلة كانت إجاباتها بالإيجاب لا بالسلب، وبَيِّنَ سبحانه وتعالى - ما ترتَّب على الإيجاب بإقرارهم الصريح، وهو أن تمتلئ قلوبهم بتقوى الله تعالى، فلا تعبد غيره.
وجاءت الآيات بعد ذلك أسئلة، الإجابة في بعضها بالسلب؛ لأنها خاصة بما يشركون بها عبادة الله سبحانه وتعالى - من أوثان وغيرها.
الاستفهام الأول كان عن شركائهم هل يفعلون ما قرروا أنَّ الله يفعله، ولسان حالهم أن يجيبوا بالسلب؛ لأنهم يرون أنَّهم لا يضرون ولا ينفعون، وسألهم عمَّن يبدأ الخلق ثم يعيده، ولسان حالهم يقوله: الله.
وهكذا نرى أنَّ الاستفهام في كل هذه المقامات في القرآن كان لإثارة التنبيه إلى الحقائق، وإذا انتبهت العقول اتجهت إلى طلب الحق في غير عوج بل بطريق مستقيم.
وإنِّي أحسب أنَّه بعد أن نزل القرآن وأشرب الناس مناهجه ومسالكه، كان من أجود الطرق التعليمية إثارة الانتباه بالاستفهام تنبيهًا إلى ما يوجه إلى التلاميذ من علم، فكان استفهام القرآن موضحًا أقوم المسالك للتنبيه إلى الحقائق وإثارة الأفهام إليها، وتفتيح الذهن لتدخل عليه المعاني، والحقائق العلمية.
100 - وإن القرآن سلك في الاستفهام مسلكًا لم نره كثير الاستعمال عند العرب من قبل نزول القرآن، ولكنَّه شاع بعد نزوله من غير سموِّ إلى مسلك القرآن، وهو دخول أداة الاستفهام على حرف النفي، مثل قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 6 - 11].
فأنت ترى من السياق القرآني أنَّ همزة الاستفهام دخلت على لم التي هي حرف نفي، فالاستفهام دخل على حرف نفي وجاء بينهما فاء هي للدلالة على أن السؤال مرتّب على ما كان قبله، وما قبله كان تعجبًا من أمر البعث؛ إذ قالوا: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} وإنَّهم كذَّبوا بالحق لما جاءهم، فكانت الآيات التي وليت الاستفهام ردًّا على تكذيبهم، وفيها الدلالة على إثبات ما أنكروا، فالفاء للدلالة على ترتيب الاستفهام، لكنَّها أخَّرت عن أداة الاستفهام؛ لأنَّ الاستفهام له الصدارة، فهي مؤخرة عن تقديم في نسق الترتيب الفكري.
والاستفهام الداخل على النفي مؤدَّاه الحث على النظر؛ لأن الاستفهام عن نفي النظر وتقرير عدم النظر، فإذا كان الاستفهام ابتداءً يقرر أنهم لم ينظروا، وفي النظر تَعَرُّف لآيات الله تعالى في الكون، فالاستفهام وحرف النفي يدلان على الإثبات، وهو هنا طلب النظر، فكأنَّ المعنى: على هذا المنطق المستقيم ثبت أنكم لم تنظروا، فالواجب أن تنظروا، فالاستفهام ابتداءً كما يبدو من سياق الكلام يقرر أنهم لم ينظروا؛ لأنَّ عدم النظر كان موضع الاستفهام، ومن المقررات البلاغية أن الاستفهام دائمًا يدخل على ما يكون موضع شك، ويقدّم فيه ما يكون موضع الشك، فإذا كان موضع وقوع الفعل كان الاستفهام مسلطًا على الفعل، مثل قول الموحديين للوثنين: {أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} [الأنعام: 71] فهنا نجد موضع الاستنكار هو ذات الفعل، فكان عقب أداة الاستفهام، وإذا كان الفعل قد وقع وموضع الشك هو الفاعل، فإنه يجيء وراء الاستفهام؛ كقوله تعالى حكاية عن قوم إبراهيم؛ إذ رأوا أصنامهم جذاذًا، قال الله تعالى عنهم أنهم قالوا له: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 62] فالفعل ثابت بالعيان أمامهم، ولكن الفاعل هو الذي يريدون البحث عنه ومعرفته.
وبهذا المنطق البياني نرى أنَّ الاستفهام في هذا النص {أفلم ينظروا} داخل على الفعل المنفي، فإذا كانت الهمزة للتنبيه أو التقرير أو التوبيخ، لأنهم لم ينظروا، وهو الراجح في نظري، فيكون لإنكار الوقوع وإنكار الواقع، وإذا كانوا يوبخون لأنهم لم ينظروا، فالتوبيخ يكون دعوة للفعل، وحثًّا على النظر.
ومن الاستفهام الداخل على النفي قوله تعالى في قصة القرآن عن أنبائهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ، قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 9، 10] ونجد في الاستفهام الذي صدرت به الآية الكريمة أن همزة الاستفهام دخلت على {لم} النافية، فكان موضع الاستفهام عدم إتيان نبأ الذين من قبلهم، ولو سرنا على ما يقتضيه السياق اللفظي للنص السامي يكون الاستفهام عن عدم الوقوع، ومعناه: إنه لم يأتكم، وإذا كان الاستفهام للتقرير أو التنبيه فمؤدَّاه أنه لم يأتكم ذلك، وفي هذا تشويق لمعرفته، وتوجيه لطلبه، ولذلك جاء من بعد ذلك النبأ عن الرسل السابقين، ويكون في هذا تثبيت الخبر لمن يطلبه مصغيًا إلى حقائقه معتبرًا بعبره.
ولقد جرت بين كُتَّاب علم البلاغة كلمة: نفي النفي إثبات، ويطبقونه على استفهام يدخل على فعل منفي، فيكون الاستفهام داخلًا على منفي، والاستفهام نفي، فيكون نفيًا لنفي، ونفي النفي إثبات، وإنَّ ذلك يسير إذا كان الاستفهام للإنكار، إنكار الوقوع، فيكون إنكارًا للمنفي فيكون إثباتًا، وقد قلنا: إنه حتى في هذه الحال لا يخلو الاستفهام من تنبيه وإقرار بما جاء الاستفهام عنه، ولكن الاستفهام الداخل على النفي يتضمَّن الحثّ على طلب الأمر المنفي الذي دخل عليه الاستفهام كما رأيت في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ} كما تلونا من قبل، وقد يكون إلى تلقي علم ما نفى في حيز الاستفهام كما رأيت في الآية السابقة.
وقد يتضمَّن الحثّ على العمل، والتحريض عليه إذا كان ذلك العمر غير محقق في الوجود، أو هناك شروع في تحقيقه، وذلك يكون غالبًا عند فنيّ الأمر المستقبل كما نرى في قوله تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 13 - 15].
ونرى من ذلك أنَّ الاستفهام دخل على النفي، وهو عدم القتال أو عدم الأهبة له، والاستعداد للتقدم، فالمستفهم عنه عدم القتال والاستعداد له وقد وجدت أسبابه، وتعدّدت موجباته، فكان الاستنكار منصبًّا على النفي والاستنكار لحال مستمرة حث على تغييرها، وإذا كان الاستنكار على ما وقع توبيخًا لمن أوقعه، فالاستنكار لأمر لم يقع بظاهر الحال واستصحابها تحريض على تغييرها، وتوجيه للإتيان بها.
وإنَّ الاستفهام الذي ينطبق عليه قول بعض الكتاب في علم البلاغة، وهو: نفي النفي إثبات، يكون في مثل قوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 37 - 40] وترى من هذا أنَّ الاستفهام دخل على النفي فكان إنكاريًّا لنفي الوقوع، فنفى على زعمهم القائل أنَّه لم يك في نشأته من مني، أو كانوا عن ذلك في غفلة ساهين، وكانوا في حاجة إلى التذكير، والإحساس بمبدئهم، ليعرفوا منتهاهم، وإنَّ الذي أوجدهم من منيٍّ أشخاصًا ذكورًا وإناثًا قادر على إعادتهم، كما بدأهم يعودون.
فالاستنكار لجهلهم هذه الحقيقة، أو تجاهلهم، وكأنهم لا يعلمون، فاستنكر هذا عليهم فكان نفيًا مستنكرًا لحال التجاهل.
ولا شكَّ أن هذا فيه تنبيه، وفيه لوم على تجاهلهم تلك الحقيقة، وبيان أنه يجب عليهم أن يعرفوها، ليكونوا في تذكر دائمٍ بقدرة الله تعالى في تدرجهم في الوجود من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، ويعلموا بذلك قدرة الله تعالى على الإعادة.
ومن الاستفهام الداخل على النفي الذي هو من قبيل أن نفي النفي إثبات، التنبيه إلى أن النبي يصنع على عين الله تعالى، ويتولَّاه، وألا يكون في يأس من رحمة الله تعالى، ومن ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: كلها].
فإنَّ الاستفهام هنا لإنكار الوقوع، أي: لإنكار أنَّ الله تعالى لم يشرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم ليتلقَّى الوحي الذي أوحى به إليه، وإذا كان الإنكار نفيًا فالمؤدي للقول: قد شرحنا صدرك، وكان الاستفهام للنفي.
101 - وإننا في ختام هذا البحث من التصريف البياني في القرآن نقرر بالنسبة للاستفهام فيه، أنَّ الاستفهام باب من تصريف القول في القرآن، وفيه من أسرار الإعجاز ما فيه، فمن الاستفهام ما يكون بعبارات تتفق مع النسق العربي السليم، ولكنَّه لم يعرف بين البلغاء قبل القرآن، وإني أرى أن أكثر صيغ الاستفهام التي جاء بها القرآن غير مسبوقة قبله، وأنَّ الاستفهام كان يستعمل أحيانًا للتنبيه، وأحيانًا للاستدلال، وأحيانا للتعجّب، وأحيانًا ليوجه الأنظار إلى الكون وما فيه، وما يجري بين الناس، وأنَّ ذلك كله مما يدل على علوِّ القرآن على مستوى ما كان عليه أكبر البلغاء، وأقواهم سلطانًا في الأسلوب العربي.